سويعات مع هيرش وسفيانو في جنيف.. أين نحن من الاستقصاء
كبار الصحافيين المؤمنين عمليا بأن دورهم يقع في صلب عمل السلطة الرابعة يصرّون على أن الإعلامي يكرم وطنه ويخدمه حين يروي الحقيقة كما هي, لا أن يفصّلها على مقاس صاحب المنصب لتعظيم منافعه الشخصية ومكاسبه الفئوية الضيقة على حساب المصلحة العامة.
تكلم غيض من فيض عبر ودروس عاد بها مئات الإعلاميين الذين شاركوا في المؤتمر العالمي السادس للصحافة الاستقصائية الذي عقد قبل أيام في جنيف. تعزّزت هذه المفاهيم بعد لقاءات تثقيفية مع صحافيين من دول "متقدمة ومتخلفة", بعضهم تعرضت حيواتهم للخطر, في معارك تغيير سياسات مفصلية في تاريخ بلادهم لمصلحة مجتمعاتهم المحلية.
شتّان بين ما سمعناه هناك وما نعاينه يوميا في بلاد يظل التحكم بالمعلومات وحجبها سلاح قوّة ونفوذا في يد المسؤول والشبكة التي تدعمه وتعزّز من سطوة نفوذه. في المقابل, يخشى إعلاميون من مواجهة المسؤولين أو تعرية تجاوزاتهم, بعيدا عن دورهم المقدس في تفعيل آليات المراقبة والمحاسبة متسلحين بالاحتراف وأخلاقيات المهنة.
أكثر العناوين إثارة خلال المؤتمر تمحورت حول تقصي الفساد, ذلك الوباء العالمي, فضلا عن طبقة الحكام في روسيا الاتحادية, تقصي برلسكوني العملاق الاقتصادي, قطب الإعلام ورئيس وزراء إيطاليا في آن.
في جلسة حول أساليب كشف تجاوزات السلطة والفساد, تحدث أربعة صحافيين عن جهدهم في تقصي حقائق تتصل برئيس مولدافيا الذي جمع ثروة طائلة عبر استغلال منصبه. أدّى ذلك التحقيق إلى التصويت لإقالة الرئيس فلاديمير فورونيس.
بالعزم, الالتزام بالمبادئ والبحث عن التفرد حفر هؤلاء الرواد أسماءهم في سجل الاحتراف والتميّز رغم التهديدات, المخاطر واحتمالات فقدان مصادر الرزق.
هؤلاء الصحافيون تحدّوا الروايات الرسمية لحكوماتهم ونبشوا بين السطور ليعلنوا التمرد على أسلوب التلقين. قد يتهمون بالمشاكسة والتخريب أو بإخفاء أجندات خاصة لمجرد محاولتهم نبش الحقائق, مقابل جيش من الإعلاميين في بلادنا تحول إلى مجرد ببغاوات تزايد على المسؤول في لي عنق الحقيقة بدلا من بناء صدقية أمام المجتمع واحترام الذات. فالقارئ وحده يعزز استقلالية الصحافي ويحصنه أمام بطش السلطة, بدل أن يتحول إلى إعلام تجييش وحشد.
من بين الإعلاميين الذين تركوا أثرا لافتا في مؤتمر جنيف لجهة جرأتهم وتفانيهم في كشف الحقيقة مهما كانت جارحة, الايطالي الشاب روبرتو سفيانو والأمريكي المخضرم سيمور هيرش. في قاموس الرجلين, كلمة الحق قد تكلّف غاليا, خاصة في دول لم تتمأسس فيها إصلاحات سياسية وقضائية على وقع تداخل السلطات وتفشي الفساد والمحسوبية وتزاوج البزنس مع الحكومة.
سفيانو يعيش متخفيا منذ أريع سنوات تحت حماية الشرطة بعد أن كشف في كتابه الأخير "جومورا" أسرارا خطيرة تتعلق بالمافيا الايطالية, حتى تصدّر المؤلفات الأكثر مبيعا في معظم دول أوروبا هذه الأيام.
المفارقة أن من تنطّح للدفاع عن المافيا في الأسابيع الأخيرة الرئيس الايطالي سيلفيو برلسكوني, المعروف عنه براعته في تمويه تداخل "الإمارة بالتجارة". ففي أحد المؤتمرات الصحافية, اتهم السياسي الصحافي بالترويج للمافيا وتضخيم وجودها, ورسم صورة سلبية عن بلاده من خلال تهويل تأثيرها على العجلة الاقتصادية والسياسية خدمة لأجندته.
تكلّم برلسكوني وكأن المافيا شيء غير موجود ولم تتسبب في تصفية الكثيرين; قضاة, رجال أعمال وسياسيين, أو الاستئثار بعوائد التنمية المحلية عبر فرض خاوات وأتاوات.
في كتابه, وثّق سفيانو حالات اغتيال 4000 ايطالي على يد عصابات المافيا في مسقط رأسه بلدة كمبانيا, عقر دار المافيات. كذلك أضاء خفايا استثماراتهم الجنائية (كريمينال انفستمنتس) في عرض البلاد وطولها.
ويصر سفيانو على أن فرض الصمت يظل هوس المافيات كيما تستطيع الحراك بأريحية, لأن "الكلمات المكتوبة والمقروءة لها تأثير وقوة لأنها تحرك عقول وعواطف القراء لمصلحة المساءلة والمراقبة". وفي إطار تكميم الأفواه, اغتيل عشرات الصحافيين ممن حاولوا كشف المافيات في بلادهم خلال العقود الماضية, خاصة في ايطاليا, وبدرجات متفاوته في دول مجاورة مثل اسبانيا وبلغاريا.
يخلص سفيانو إلى أن الصحافيين يتحاشون اختراق قلاع المافيات لأنهم يتعرضون لحملات تلطيخ سمعة ممنهجة على يد مسؤولين وأحيانا من رفاق المهنة, كما يخشون على حياتهم, ولا يجدون تعاطفا من المجتمعات المحلية.
أما الأمريكي سيمور هيرش, فلم يكن أقل مهادنة في حياته المهنية. وهو ما يزال يقارع لكشف الحقيقة. شهرة هيرش حلّقت عالميا بعد أن كشف أبعاد مجزرة ارتكبها جيش بلاده في فيتنام, ما ساهم في تأليب الرأي العام ضد تلك الحرب التي استنزفت دماء وأموال أمريكا قبل أن تسارع لإطفائها قبل 35 عاما.
وقبل أربع سنوات, كشف الصحافي المتخصص بالإعلام الاستقصائي التعذيب الممنهج الذي كان يستخدمه جيش الاحتلال الأمريكي في سجن أبو غريب غرب بغداد. ووثّق تلك الفضائح في ثامن كتابه تحت عنوان "سلسلة القيادة".
بمقالاته الاستثنائية وكتبه, أضحى هيرش مثالا يحتذى لمئات الصحافيين الاستقصائيين حول العالم.
هيرش شرح في جنيف أمام مئات الصحافيين خلاصة تجربته كعين الرقيب بعد عقود من العمل في أوروبا وأمريكا. "أستطيع أن أؤكد أننا نحن من يصلح الأمور وليس الحكومات, في عهد تسيّر فيه العلاقات العامة عمل الحكومات (بى ار دريفين غوفرمنتس) وليس الوطن.
فمن دون صحافة استقصائية قويّة وفعالة سينمو فساد على مستوى الدول وسيصيب هذا المد المسؤولين بالجنون (ذي ويل غو كريزي). فالحكومات "تكذب... ونحن قد نرتكب أخطاء خلال عملنا المهني. لكننا لا نكذب, وهذا هو الفرق الكبير بيننا وبينهم".
انتقد هيرش دور الإعلام الأمريكي خلال السنوات العشر الماضية, معتبرا أنه لم يعد إعلام وطن, ولم يأخذ مواقف كافية للتشكيك في الرواية الرسمية; مثلا مؤامرات إدارة جورج بوش الابن لشن حرب على العراق بحجّة لجم البرنامج النووي الصدّامي. الإعلاميون, خاصة الصحافيون الاستقصائيون, ليسوا شركاء للحكومات ولا ينامون معها على السرير ذاته. لكن للأسف, أصبح الإعلام بعد اعتداءات 11 سبتمبر 2001 جزءا مكملا للفريق الحاكم", على ما يشخص هيرش, مؤكدا في المقابل "أن واجبنا يملي علينا أن نغطي الأخبار ونحلل ما وراء الأحداث لا أن نبقى صامتين".
ويضيف: "الحكومات تكذب كما تتنفس. وما أحاول أن أقوم به كصحافي استقصائي هو محاسبتهم حسب أعلى المعايير. أرفض أن أنضم إليهم, فواجبي يحتم علي قول إنهم يكذبون أو لا يكذبون. وهذا ما يعطي التميز والخصوصية لمهنتي ولمهنتنا".
يصر هيرش على أن "الموضوعية شيء جيد إذا لم يختلط ذلك المفهوم مع الوطنية. فانتقاد سياسة حكومتك وكشف طريقتها الخاطئة في إدارة شأن الدولة لا يجب أن يعني بأي حال أنك غير وطني ولا تحب بلدك".
من بين نصائحه للجيل الجديد من الاستقصائيين الواعدين الذين يحاولون شق الطريق ومواجهة التحديات القانونية, المهنية, المجتمعية والسياسية, يقول هيرش:
- أتابع الأخبار المتصلة بإنهاء خدمة كبار الضباط في القوات المسلحة وسائر الأجهزة الأمنية, لأنهم غالبا ما يتركون العمل وفي أنفسهم غضب وزعل وحسرة, خاصة إذا خرجوا برتب من دون منصب رئيس هيئة الأركان. المتقاعدون يتحدثون بأريحية عن الأمور التي عايشوها بعد سنوات من التكتم بسبب ظروف العمل. هؤلاء مفيدون كمصادر معلومات لأنهم يحصلون عليها باستمرار عبر المراتب التي اشرفوا على تكوينها في بدايات عملهم. آخذ المعلومات منهم ثم أدقق في صحتها من مصادر عاملة. ويكون هؤلاء بمثابة المصادر السرية التي تصر على عدم ذكر اسمها, لكن من دونها لا استطيع العمل على كشف الأسرار بعد توثيق المعلومات وتحرّي دقتها من مصادر عاملة داخل هذه المؤسسات.
- ازرع الثقة في الأشخاص الذين تتحدث إليهم حتى يصبحوا مصادر لمعلوماتك. ومن الضروري أن لا تكسر قواعد الاتفاق الذي تتوصل إليه معهم حيال طريقة التعامل مع الأخبار والاقتباسات التي يزودونك بها, لان هذه المصادر تتحدث مع بعضها بعضا وفي حال خالفت الاتفاق تتلطخ سمعتك ويقاطعونك.
- أدير حياتي المهنية كما أدير شؤون عائلتي. فمع العائلة تريد ان تتمتع بالاحترام وبالثقة ولا تريد أن تكذب على أولادك وزوجتك ولا تريدهم أن يكذبوا عليك. وفي حياتنا العامة والمهنية توصلنا إلى قناعة بأن ما نريده هو ما نتمتع به داخل العائلة الواحدة. نريد الاحترام والثقة والنزاهة أو الانتيغرتي".
- لا تخزنّوا المعلومات التي تحصلون عليها في طور إنجار أعمالكم على أجهزة الحاسوب لأن ذلك يعرض مصادرك للخطر في حال استطاعت جهة ما اقتحام جهازك والعبث به واستخراج المعلومات. وفي حال ألحق هذا الاختراق الضرر بمصادرك فانك تنتهي كصحافي متميز. وثق كل شيء في دفاتر.
- سمعتك المهنية هي رأسمالك, خاصة أن من تكتب عنهم وتكشف ممارساتهم سيحاولون النيل من مصداقيتك أو تلطيخ سمعتك أو إطلاق النعوت والأوصاف عليك مباشرة أو عن طريق وسطاء متنفذين, وأحيانا من الصحافيين المحسوبين عليهم.
- عليك أن تعطي لكي تأخذ. هذا يعني أنني لا أخشى مشاركة معلوماتي مع مسؤولين, وأحيانا أقول لهم هذا ما توصلت إليه وأرغب في أن تعطوني رأيكم في ما توصلت إليه.
- أسوأ ما تستطيع ارتكابه هو أن تطلب مقابلة من مصدر أو من مسؤول من دون أن تقرأ عنه وتجهز نفسك مسبقا لكي تستطيع أن تحاوره بطريقة مهنية ولا تترك له المجال للهروب منك.
- سلّح نفسك بالقراء لكي تصبح خبيرا وتكتسب احترام مصادرك ومن تحاورهم.
- حصّن نفسك من المصادر التي قد تصل إليك وفي نفسها غاية لتضليلك أو للإيقاع بك. تعلّمت أن لا أتكلم مع مصادر لا اعرفه
* نقلا عن العرب اليوم