نساء تحت الحصار .. يلملمن جروحهن ويحفرن في الصخر من أجل لقمة العيش لأبنائهن
في الحصار كل ماتفعله مباح ويبقى عنوانا للصمود واثبات الذات .. هنا نساء غزة .. نساء تحت وفى قلب الحصار يكابدن في الحياة من أجل الحياة، لا يتخيل القارئ وأنا أكتب كم هي قسوة المعاناة هنا التي جلبها الحصار الذي تفرضه قوات الاحتلال الاسرائيلى وشارف على أربع سنوات على قطاع غزة أدخلته في مرحلة جديدة من مراحل البؤس والشقاء، وقد دفعت الأوضاع الاقتصادية الصعبة وتفاقم البطالة والفقر الشديد التي يعشها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة المرأة الفلسطينية أن تشارك الرجل المسؤولية، وتحمل على أكتافها الغضة بمجهودها الخاص مسؤولية الأسرة، وتبحث عن آفاق جديدة للعمل .
وفي شكل غير معهود من أشكال التغلب على عدم توفر فرص العمل لآلاف العائلات الغزية، ومما لاشك فيه أن معاناة المرأة تزداد وتزداد حين تفقد زوجها أو معيلها فيقع عليها عبئا أكبر، يجعلها تفكر ليل نهار، ودعونا نرسم مشاهد نراها هنا وتحديدا سنركز على نماذج عن نساء غزة، تتحدث معي الآن أرملة تعيل "7" أطفال أكبرهم لم يتجاوز بعد عامه العشرين. أمينة محمود البالغة من العمر "45" عاما من بيت حانون شمال قطاع غزة، تحدت غول "الفقر" وظلم الحصار.. فقررت الاعتماد على ذاتها في تربية أبنائها ولاتكن عالة أو تجعل من المؤسسات الاجتماعية عنوان لها، اهتدت إلى فكرة أو مشروع تجفيف الخضراوات التي تفيض عن حاجة أسرتها التي شكلت أولى خطوات طريق رسمت بالأمل لأسرة كاد الفقر والعوز أن يفتك بها.
وفى لقاء مع ( أخبار السعيدة) أخذت تتحدث أمينة وهى التي فقدت زوجها منذ فترة قائلة :" لقد نبع مشروعي باستثمار كافة الخضروات التي تفيض عن حاجة أسرتي التي اعمل على زراعتها في ساحة البيت " حديقة المطبخ" وذلك من خلال تجفيفها بعرضها على سطح المنزل نهارا وتغطيتها بقطعة من القماش ليلا، وكنت اعمل على تسويقها لاسيما نبتة الزعتر والمرمية وأيضا الطماطم المجففة، والباذنجان البابونج وغير ذلك.
واعتبرت السيدة أمينة ومشروعها بمثابة مرحلة جديدة للمؤسسات الزراعية من اجل استثمار الخضروات التي تفيض عن حاجة المزارعين والنساء الريفيات فبدأت مرحلة إنشاء المجففات لتكون أول المستفيدين من ذلك.
وتعد "أمينة" واحدة من آلاف النسوة اللواتي فقدن أزواجهن بفعل الممارسات الإسرائيلية التي قتلت الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني. وتقول وهي تقف أمام المجفف الذي يعتمد على الطاقة الشمسية:" لقد نجوت بأسرتي من غول الفقر وحولته إلى معول بناء(...) أصبحت اليوم امتلك سوبر ماركت صغير يضم العديد من المزروعات والخضار المجفف وأشارت بيدها إلى العديد من المزروعات المجففة التي تلاقى رواجا كبيرا في الشارع الغزي".
ورغم صغر مساحة السوبر ماركت إلا انه بات عنوان لصمود المرأة الفلسطينية القادرة على امتلاك زمام الأمور بكلتا يديها وتوضح أمينة انه ومن خلال تلك المزروعات التي افترشت ساحة الدار بالعديد من المزروعات لاسيما الزعتر، المرمية، البابونج والبندورة( الطماطم) والفلفل الحار أنها تمكنت من تعليم أبنائها وأن معظمهم على مقاعد الدراسة إضافة إلى أنهم يدها اليمين في العناية بالحديقة المنزلية لأنها مصدر حياتهم الأساسي.
وتقول بكلمات مفعمة بالأمل :" لقد أصبحت مزارا للعديد من الأجانب الذين يحضرون هنا لشراء العديد من المواد المجففة لاسيما عش الغراب "الفطر" الذي اعمل على زراعته داخل المطبخ في سلات بلاستيكة مخصصة لذلك وتجفيفه وتحويله إلى مسحوق بودرة .
أم حسن .... نريد أن نعيش
لم يمنع كبر السن الحاجة أم حسن (52عامًا) وهي ربة لعائلة مكونة من عشرة أفراد أصيب زوجها بحادث منذ سنوات طويلة وأصبح غير قادرا على العمل، مما توجب عليها طوال السنوات الماضية توفير متطلبات الحياة اليومية لأطفالها، ووجدت في هذا العمل ضالتها بعد انعدام فرص العمل أمام امرأة في عمرها.
تروي الحاجة أم حسن عن رحلتها اليومية ما بين منزلها الواقع في مخيم خان يونس جنوب قطاع غزة ومنطقة المحررات، وهي المنطقة التي كانت تعدُّ مغتصباتٍ للاحتلال الصهيوني حين كان يجثم على صدور أبناء القطاع ويستحوذ على كل خيراتهم، فكانت هذه الأراضي مصدر رزق لكثير من المهن المتنوعة لأبناء القطاع المحاصر والذين يعانون من شظف العيش وقلة فرص العمل.
تشد أم حسن الرحال مصطحبة أطفالها ليعينوها على هذا العمل الشاق، تقول: " يساعدونني أبنائي في هذه في الحفر الذي أعتبره أصعب مرحلة من مراحل استخراج الحصمة، ولكن في فترة المدارس يكون معي ابني الأكبر حسن فقط، والذي انقطع عن الدراسة ليكون عونا في إعالة إخوته الصغار، فنضطر للحفر معًا، وأحيانا أخرى بمساعدة الأبناء نحفر مساحةً أوسع تتعدى المترين، وغالبًا ما نُخرج كميةً بمعدل عربتين في اليوم نبيعها بـ30 شيقلاً (9 $) تقريبًا للتجار الذين يوجدون في المكان ويقيِّمون الحصى حسب حجمه وجودته.
وعن مدى كفاية هذا المبلغ لعائلة مكونة من عشرة أفراد، تجيب أم حسن : "نريد أن نعيش، هذا هو قدرنا، ووضعنا أفضل من وضع غيرنا ما دمنا بصحتنا وقادرين على العمل".
ومن المعلوم أن الحصمة من المواد الاسياسية للبناء والتي عمدت سلطات الاحتلال الاسرائيلى إلى منع إدخالها لقطاع غزة منذ بدء الحصار وهذا كان له تأثير سلبى فى عدم القدرة على عملية بناء المشاريع والمباني وغيرها.
وللحصول على هذا الحصى اللازم لعملية البناء المتوقفة تقوم نساء وأطفال بعض العائلات المحتاجة بجمع الحصى، وذلك بنبش الأرض الطينية بمعاول صغيرة أو ما تيسَّر لهم من أدوات للحفر، ثم يضعون التراب المخلوط بكميات قليلة من الحصى في منخل وهزّها؛ بحيث يبقى شيء بسيط جدًّا من الحصى في المنخل بعد كل مرة، ومن ثم يتم وضعها في المكان المعدِّ لتجميعها فيه لكي يبيعوها في آخر المطاف بثمن يسدُّ بعض حاجتها.
ويعيش قطاع غزة حالة من الوضع المجهول في كل جوانب الحياة فيها إضافة إلى وضع اقتصادي مدمر ونشير هنا وحسب وزارة الاقتصاد الوطني -التجارة الداخلية عن تأثير الحصار فقد انخفض الدخل الحقيقي للفرد أكثر من 50% عما كان عليه فى السابق ، إلى جانب انخفاض المدخرات وتراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي بصورة ملحوظة بسبب استمرار سياسة الحصار الاقتصادي المشدد.
كما توقف أكثر من 90% من المنشات الصناعية عن العمل، وكذلك الأمر بالنسبة لقطاع الزراعة الذي توقف عن التصدير بصورة شبه كلية، إلى جانب التدهور في قطاع الإنشاءات والتجارة والخدمات في سياق التراجع الحاد للواردات والصادرات بصورة غير مسبوقه، وإفلاس العديد من الشركات في قطاع غزة حيث هبط عدد المؤسسات من 17796 مؤسسة عام 2007 إلى 15483 مؤسسة بنسبة انخفاض 13% .
إنتاج المفتول في زمن الحصار يصبح مقبول
جلست 'أم أيمن' متربعة أمام طبق كبير من الألمنيوم وأخذت تلاعب أصابعها الدقيق الأبيض بخفة، لتحوله تدريجيا إلى حبات صغيرة متساوية، وتفرك بقوة حبات المفتول الكبيرة لتخرجه بعنوة من فتحات 'الكربالة'.
بدأت رحلة هذه السيدة التي شارفت على نهاية عقدها الخامس من العمر، وتقطن مخيم رفح الواقع جنوب قطاع غزة، مع إنتاج المفتول بعدما توقف زوجها عن العمل نتيجة المرض، وفقدان مصدر رزقها للأسرة التي تتكون من ثمانية أطفال.
لم يكن أمام 'أم أيمن' خيار ولا حتى وقتا للقرار خاصة وهي ترى أفواه أبنائها الثمانية التي تطلب تعليما وأكلا وشربا وملبسا إلا البحث عن عمل تجيده وورثته عن جدتها وأمها، وهو صناعة المفتول التي تحتاج فقط إلى مهارتها الموروثة.
وأما عن أدوات صناعة المفتول البيتية فهي فى متناول اليد، ولا تتطلب سوى 'اللقان' (وعاء مستدير مصنوع من الفخار بعمق يتراوح 30 سم، ويمكن أن يستخدم بدلا من صحن كبير مصنوع من الألمنيوم.. لكن عملية الفتل في الوعاء المصنوع من الفخار أسهل وأسرع)، و'كربالة' (غربال مصنوع من السلك الناعم، وذو فتحات ضيقة)، وعاء (لوضع الماء المملح فيه ليرش على الدقيق أثناء عملية الفتل لتكويره).
وواصلت 'أم أيمن' عملها حتى أنها أعدت خطة تسويقية لمنتجها، وذلك بالاتفاق مع بعض الجمعيات التي تعنى بمثل تلك الأكلات الشعبية، ومن جهة أخرى بدأت تلك السيدة في توسيع تسويقها حيث يقوم أبناؤها بعرض أكياس المفتول على المحلات، لتوفر صناعة المفتول لأسرتها ربحا لاباس به.
يشار إلى أن تسمية المفتول بهذا الاسم ترجع نسبةً إلى الفَتْل وهو تحريك حبيباته بيد المرأة، في شكل دائري حتى تكتسي وتصبح مكورة، وتحمل هذه الأكلة الشعبية في دول حوض المتوسط اسم 'الكسكس'، ولكنها تعرف في فلسطين وبلاد الشام بـ 'المفتول'.
وتساهم بعض المؤسسات الخيرية فى قطاع غزة، بتوفير فرص عمل لنساء حيث يتمكن من صناعة 60كيلو من المفتول يوميا، مقابل اجر شهري 1000 شيقل مايعادل (250 دولار)، إضافة إلى 5 كيلو من المفتول لكل سيدة عند نهاية برنامج عملها.
وحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فإن البطالة في قطاع غزة – منتصف عام 2009- تصل إلى 35.6% وعدد العاطلين عن العمل فيقدر بحوالي (124) ألف عاطل، وهؤلاء المتعطلين يعيلون ما يقرب من 615 ألف نسمة (بمعدل إعالة 1-5) (ما يعادل 41% من مجموع سكان القطاع البالغ 1.5 مليون نسمة) يعيشون تحت مستوى خط الفقر أو في حالة من الفقر المدقع . وحسب الجهاز فإن أعلى نسبة للبطالة كانت تتركز بين فئات الشباب المختلفة ، الذين يحملون شهادة بكالوريوس حيث سجلت الفئة العمرية 15-24 سنة أعلى نسبة للبطالة .